-->

السبت، 4 أبريل 2020




حكم حل السحر بالسحر
فحكم السحر والساحر والنشرة ، مما يتعلمه أبناؤنا وبناتنا في الصفوف الأولى في مراحل التعليم ، ويكرر لهم ذكره في خطب الجمعات وفي غيرها من المناسبات ، حتى استقر في أذهان الخاصة والعامة حكم تلك المسائل ، واطمأنت قلوبهم لها ، كما هو ظاهر .
وقد مرت عقود والناس فيها هنا لا يعرفون إلا القول الراجح الموافق للكتاب والسنة ولآثار السلف ولقول جماهير العلماء من الخلف ، وهو أن السحر كفر ، وأن الساحر كافر ، ولا يجوز حل السحر بالسحر.
وضرر السحر والسحرة ، ومفسدتهم في الدين والدنيا ، مما لا يخفى على عاقل ، ولا يحتاج إثباته إلى دليل .
لكننا ابتلينا بطائفة ممن ينتسب إلى العلم والإفتاء ، ممن أعجبه رأيه وأخذ يعمل فكره في استخراج الآراء الشاذة المخالفة للنصوص الصريحة ، والانتصار لها والإفتاء بها للعوام ، دون النظر إلى عواقب الأمور ، ولا أخذ مشورة ولاة الأمور من العلماء والأمراء ، الذين هم أعلم منه بما يصلح أن يفتى به وما لا يصلح .
وسنذكر هنا ما قاله أهل العلم في هذه المسألة ، حتى يعلم ذلك المفتي أن من سبقه أعلم منه بها ، وأن اختيارهم للقول الصحيح في منع حل السحر بالسحر ، والإنكار على من قصد السحار لطلب النشرة ، لم يكن عن جهل بالقول الشاذ الذي اختاره هو ، وظنه أرجح من اختيارهم .
ذكر ابن قدامة حكم حل السحر بالسحر ، فقال (( وأما من يحُلّ السحر ، فإن كان بشيء من القرآن ، أو شيء من الذكر والأقسام والكلام الذي لا بأس به ، فلا بأس به .
وإن كان بشيء من السحر ، فقد توقف أحمد عنه . قال الأثرم : سمعت أبا عبدالله سئل عن رجل يزعم أنه يحل السحر ، فقال قد رخّص فيه بعض الناس . قيل لأبي عبدالله : إنه يجعل في الطنجير ماءً ويغيب فيه ويعمل كذا ، فنفض يده كالمنكِر ، وقال : ما أدري ماهذا .
قيل له : فترى أن يؤتى مثل هذا يحل السحر ؟ فقال : ما أدري ماهذا ؟ .
وروي عن محمد بن سيرين أنه سئل عن امرأة يعذبها السحرة ، فقال رجل : أخط خطاً عليها ، وأغرز السكين عند مجمع الخط ، وأقرأ القرآن . فقال محمد : ما أعلم بقراءة القرآن بأساً على حال ، ولا أدري ما الخط والسكين ؟ .
وروي عن سعيد بن المسيب في الرجل يؤخذ عن امرأته ، فيلتمس من يداويه ، فقال : إنما نهى الله عما يضر ، ولم ينهَ عما ينفع .
وقال أيضاً : إن استطعت أن تنفع أخاك فافعل .
فهذا من قولهم يدل على أن المعزِّم ونحوه ، لم يدخلوا في حكم السحرة ، لأنهم لا يُسمّوْن به ، وهو مما ينفع ولا يضر .. )) ا هـ . انظر المغني [ 12 / 300 – 305 ] .
قال سمير : ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سُحر ، كما روت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، والحديث مشهور ، وقد جاء في حديثها " قلت يا رسول الله أفلا استخرجته ؟
قال : قد عافاني الله ، فكرهت أن أثير على الناس فيه شراً .. " .
وفي لفظ " قال : فاستخرج . قالت : فقلت : أفلا – أي تنشّرت - ؟
فقال : أما والله فقد شفاني ، وأكره أن أثير على أحد من الناس شراً " .
وقد بين الحافظ في الفتح اختلاف الرواة في بعض ألفاظ هذا الحديث ، ومنه سؤال عائشة رضي الله عنها هل هو عن استخراج السحر ، أم عن النشرة ؟
قال الحافظ (( قال ابن بطال : ذكر المهلب أن الرواة اختلفوا على هشام في إخراج السحر المذكور ، فأثبته سفيان ، وجعل سؤال عائشة عن النشرة ، ونفاه عيسى بن يونس ، وجعل سؤالها عن الاستخراج ، ولم يذكر الجواب ، وصرح به أبو أسامة .. )) .
ثم ذكر الجمع بين الروايات ، بأن يحمل الاستخراج المثبت على الجف ، والمنفي على ما حواه الجف ، حتى لا يراه الناس فيتعلمه من أراد استعمال السحر . انظر الفتح [ 10 / 235 ] .
وقد بوب البخاري في صحيحه بقوله : باب : هل يُستخرج السحر ؟
قال البخاري (( وقال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : رجل به طبٌّ ، أو يؤخّذ عن امرأته ، أ يُحلُّ عنه أو يُنشّر ؟
قال : لا بأس به ، إنما يريدون به الإصلاح ، فأما ما ينفع فلم يُنه عنه )) .
قال الحافظ (( أورد الترجمة بالاستفهام إشارة إلى الاختلاف ، وصدر بما نقله عن سعيد بن المسيب من الجواز إشارة إلى ترجيحه )) .
ثم ذكر الحافظ رواية قتادة عن سعيد بن المسيب التي علقــها البخاري ، وذكر أنهــا وردت بلفظ " إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع " .
وفي لفظ (( عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأساً إذا كان بالرجل سحر أن يمشي إلى من يطلق عنه . قال قتادة : وكان الحسن يكره ذلك يقول : لا يعلم ذلك إلا ساحر . قـال : فقال سعيد بن المسيب : إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع )) .
قال الحافظ (( وقد أخرج أبو داود في " المراسيل " عن الحســن رفعه " النشرة من عمل الشيطان " ، ووصله أحمد و أبوداود بسند حسن عن جابر . قال ابن الجوزي : النشرة حل السحر عن المسحور ، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر .
وقد سئل أحمد عمن يطلق السحر عن المسحور فقال : لا بأس به . وهذا هو المعتمد .
ويجاب عن الحديث والأثر بأن قوله " النشرة من عمل الشيطان " ، إشارة إلى أصلها ، ويختلف الحكم بالقصد ، فمن قصد بها خيراً كان خيراً ، وإلا فهو شر .
ثم الحصر المنقول عن الحسن ليس على ظاهره ، لأنه قد ينحل بالرقى والأدعية والتعويذ ، ولكن يحتمل أن تكون النشرة نوعين .. )) .
ثم قال الحافظ ابن حجر (( قوله " أو يُنشّر " ، بتشديد المعجمة ، من النُّشرة ، بالضم ، وهي ضرب من العلاج يعالج به من يظن أن به سحراً أو مساً من الجن ، قيل لها ذلك ، لأنه يكشف بها عنه ما خالطه من الداء .
ويوافق قول سعيد بن المسيب ما تقدم في " باب الرقية " في حديث جــابر عند مســلم مـــرفوعاً " من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل " . ويؤيد مشروعية النشرة ما تقدم في حديث " العين حق " في قصة اغتسال العائن .
وقد أخرج عبدالرزاق من طريق الشعبي قال : لا بأس بالنشرة العربية التي إذا وطئت لا تضره ، وهي أن يخرج الإنسان في موضع عضاه فيأخذ عن يمينه وعن شماله من كلٍّ ، ثم يدقه ويقرأ فيه ثم يغتسل به .
وذكر ابن بطال أن في كتب وهب بن منبِّه : أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر ، فيدقه بين حجرين ، ثم يضربه بالماء ، ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل ، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ، ثم يغتسل به ، فإنه يذهب عنه كل ما به ، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله )) .
قال الحافظ (( و ممن صرح بجواز النشرة : المزني ، صاحب الشافعي ، وأبو جعفر الطبري وغيرهما .
ثم وقفت على صفة النشرة في كتاب " الطب النبوي " ... )) إلى آخر ما نقله ، وفيه ذكر طريقة من طرق النشرة والحل ، وليس فيها سحر ولا رقى مجهولة ، بل هي بنحو ما تقدم ذكره عن الشعبي ووهب بن منبه . انظر الفتح [ 10 / 233 – 234 ] .
قال سمير : هاهنا عدة مسائل :
الأولى : أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سحر ، لم يلجأ إلى ساحر ليحل عنه السحر ، مع أنه مكث مدة يعاني من السحر ، قيل أربعين ليلة ، وقيل ستة أشهر .
قال الحافظ في الفتح [ 10 / 226 ] " وهو المعتمد " .
ثم جاء الملكان فأخبراه بمكان السحر ، فاستخرجه وشفاه الله منه .
وفي رواية ذكرها الحافظ في الفتح [ 10 / 230 ] (( فاستخرج السحر من الجف من تحت البئر ثم نزعه فحله ، فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم )) .
وفي رواية أنه وجد في الطلعة تمثالاً من شمع ، تمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا فيه إبر مغروزة ، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة ، فنزل جبريل بالمعوذتين ، فكلما قرأ آية انحلت عقدة .... )) .
فدل ذلك على أن شفاءه صلى الله عليه وسلم كان بسببين من الأسباب التي شرعها الله وهما : استخراج السحر ، وقراءة المعوذتين .
الثانية : أن الذين أباحوا حل السحر بالسحر ، ليس معهم دليل ، لا من كتاب ولا من سنة ، ولا إجماع ، ولا قياس ، ولا قول صحابي .
وغاية ما عندهم هو قول التابعي الجليل سعيد بن المسيب .
ولم يقل أحد من أهل العلم ، إن قول التابعي حجة في دين الله .
وهذه كتب الأصول لدينا قد ذكرت الأدلة المتفق عليها ، وهي الكتاب والسنة والإجماع ، ثم الأدلة المختلف فيها ، ومنها القياس وقول الصحابي وعمل أهل المدينة والاستحسان ونحوها .
لكنهم لم يذكروا أن قول التابعي دليل شرعي يحتج به في شرع الله .
ومعلوم أنه لو قال بهذا القول صحابي ، لوجب رده لمخالفته للنصوص ، فكيف بقول التابعي ، وقد خالفه غيره من التابعين ، فما الذي جعل قول ذاك حجة ؟!
حتى إذا قيل إن هذا الأثر قد قال به البخاري وأحمد بن حنبل وغيرهما من الفقهاء ، فإنه لا يجعله حجة في دين الله ، كما تقرر في الأصول ، ولا ينبغي أن يختلف في هذا .
وهذا كله على فرض أن هؤلاء الأئمة ، ابن المسيب وغيره ، يجيزون حل السحر بالسحر .
الثالثة : وعندنا كتاب الله ، يحكم بأن السحر كفر ، فكيف يجرؤ أحد أن يعارضه بقول سعيد بن المسيب و غيره ؟
فإن قال لنا قائل بنحو قول سعيد بن المسيب (( إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع )) أو قال (( إنما يريدون به الإصلاح )) .
قلنا : لكن الله تعالى قال { ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم } .
فأثبت الضرر ونفى النفع عن السحر .
قال ابن العربي في أحكام القرآن (( والضرر وعدم المنفعة في السحر متحقق )) ا هـ .
ونقول أيضا ً : إن الله تعالى ذم السحر في كل آية ورد فيها ، فقال { ولا يفلح الساحر حيث أتى } ومن كان هذا حاله فكيف يرجى منه الشفاء والفلاح ؟ .
وقال سبحانه { قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين } .
فالساحر مفسد ، فكيف يرجى منه النفع والصلاح ؟
ثم عندنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد نهانا فيها عن السحر بأبلغ عبــارة ، فقــــــال " اجتنبوا " !
فكيف يعارض قول رســول الله صلى الله عليه وســلم بقول سعيد وغيره ، والله تعـــالى يقــــول { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }
وقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله عن مسترقي السمع (( حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن .. فيكذب معها مائة كذبة )) .
فالساحر كذاب مفترٍ ، فكيف يوثق به وبسحره ؟
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (( من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد )) .
وهذا ، وإن لم ينص فيه على الساحر ، لكنه نص على من هو مثله أو دونه في المفسدة ، ولهذا رأى أهل العلم ، أن الساحر يدخل في هذا الحديث ، كما تقدم نقل كلامهم .
ويؤيد ذلك أيضاً أثر ابن مسعود " من أتى عرافاً أو ساحراً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " .
وقد تقدم أن هذا الأثر جود إسناده ابن كثير وابن حجر ، وقال الأخير " ومثله لا يقال بالرأي " .
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان قال (( فلا تأتوهم )) .
رواه مسلم [ 1748 ] .
ويدخل في ذلك الساحر ، كما تقدم ، فكيف يصح الإفتاء بالذهاب إلى السحرة لحل السحر ؟ .
الرابعة : ثم جاءت الآثار تؤيد ما سبق ، حين أمرت بقتل الساحر .
ولا يصح أن يؤمر بقتل الساحر ، ويطلب منه حل السحر ، كيف يصح الجمع بينهما ؟
حتى من لا يرى قتل السحرة ، فإنه يعلم أنهم مجرمون مفسدون في الأرض ، عصاة بغاة ، مرتكبون للموبقات ، فلا يستقيم أن يسألوا حل السحر ، وشفاء المسحور .
لأن في ذلك إعلاءً لشأنهم ، وإعظاماً لقدرهم ، فالمريض هو الضعيف المحتاج ، والطبيب هو المتحكم في العلاج ، كما هو ظاهر لكل عاقل .
فكيف - بالله – يصلح أن يأتي المؤمن أو المؤمنة ، إلى من حكم عليه أكثر السلف بالردة والزندقة ، وحكم عليه الآخرون بأنه من الكذبة الفجرة ، فيسأله منفعة أو دفع مضرة ؟! .

0 تعليقات على " حكم حل السحر بالسحر "